نظريات الدولة وسيادة القانون |
الدولة وسيادة القانون في ضوء نظريات الحقوق المختلفة
الدكتور عادل عامر
واذا كان الاجماع ينعقد اليوم
على ضرورة تقييد الدولة بالقانون ورضوخها لاحكامه، فإن الخلاف يستعر بشأن اساس ذلك
التقييد وتحديد المبررات التي يستند اليها. ويمكن تقسيم الاراء الرئيسة التي في
هذا الشأن على ثلاث نظريات نرتبها حسب تأريخ نشأتها.
أولا: نظرية الحقوق الفردية:
كانت اولى
النظريات القانونية التي ظهرت لتحديد الاساس الذي يقوم عليه مبدآ خضوع الدولة
للقانون، هي نظرية الحقوق الفردية التي تقول بوجود حقوق فردية اصلية وسابقة على
الدولة، تسمو عليها ولاتخضع لسلطانها، وبأن الفرد ما انضوى تحت لواء الجماعة الإ
لحماية هذه الحقوق والتمتع بها في آمن وطمأنينة.. فدخول الفرد في الجماعة لا يفقده
هذه الحقوق. وما دامت هذه الحقوق سابقة على كل تنظيم سياسي، فهي تخرج عن سلطان
الدولة، وفوق ذلك فهي تقيِّد أنشطتها. وهذه هي النظرية التي قام عليها إعلان حقوق
الانسان والمواطن في فرنسا سنة 1789.
نقد النظرية:
حظيت هذه
النظرية بالتأييد المطلق ما يقارب من قرنين من الزمان، ثم تعرضت للنقد حتى لم يبقَ
لها إلا القليل من المعتنقين. واهم ما يؤخذ عليها هو إغراقها في التصور والخيال،
إذ تقوم على اساس، وضع الإنسان الفطري، قبل دخوله في الجماعة، ولمجرد صفته إنسانآ،
فإن يمتلك حقوقا طبيعية ودائمة، وله أنْ يحتفظ بتلك الحقوق بعد انخراطه في سلك
الجماعة، وأن العقد الاجتماعي لم يكن من شأنه أنْ يحرمه من تلك الحقوق، وإنما على
العكس جاء العقد الاجتماعي لحماية تلك الحقوق والمحافظة عليها .
على أن
هذا الادعاء منهار الاساس، لأن الحق لا يتصور وجوده في غير وجود الجماعة إذ أنه
يفترض وجود شخصين يفرض احدهما إرادته على الاخر، والإنسان الفطري لا تربطه علاقة
اجتماعية بغيره من البشر لأنه يحيا في عزلة فردية، ومن ثم لا تتصور له حقوق. قد
تكون له سلطة مادية على الأشياء، ولكن في جوهر توصيف الوضع لم تكن له حقوق. كما ان
هذه النظرية تحول دون التطور الاجتماعي: فالدولة في مفهوم هذه النظرية لا تستطيع
ان تضع قيودا على الأفراد الإ بالقدر الضروري لحماية نشاط الجميع. فهي لا تستطيع
إذن الإ وضع قيود سلبية من دون ان يكون لها سلطة فرض التزامات ايجابية على
الأفراد، أي انها تستطيع ان تمنع الفرد من الاعتداء على حرية الاخرين وليس لها ان
تلزمه بعمل شئ من أجل الاخرين وهذا هو جزء من فروض الدولة الحديثة وأهدافها وعلى
الاخص في الفقه الاشتراكي. وأخيرا فان الحق الفردي لا قيمة له ما لم يحدد مضمونه
وتـُبيَّن وسائل استعماله، الأمرالذي لا يتصور بغير القانون، ومن ثم فلا يمكن
للحقوق الفردية ان تكون قيودا فعالة على نشاط الدولة لانه لا اثر لها قبل تدخل
الدولة من اجل تنظيمها. فالمذهب الفردي اذ يقابل بين الفرد والدولة إنما يؤدي الى
احد أمرين : الفوضى او الاستبداد، لانه اما ان يكون للفرد ان يحدد حقوقه بنفسه،
وحينئذ تنهار الدولة من أساسها وتكون الفوضى، واما ان تحدد الدولة وحدها مدى
الحقوق الفردية، ووقتئذ لن يقف في سبيلها شئ مما يؤدي الى الاستبداد او التحكم.
ومع ذلك كله وعلى الرغم من جميع هذه الانتقادات، فلا شك ان تقرير الحقوق الفردية
وخصوصا اذا ما ضمنت في وثيقة لها جلالها كوثيقة إعلان الحقوق، لاشك ان ذلك التقرير
من الناحية السياسية ان لم يكن من الناحية القانونية، يحول بين المشرع وبين
الاعتداء على الحريات الاساسية للفرد كما أحس قوة الرأي العام. فالنظرية في
الحقيقة لها قيمة سياسية اكثر منها قانونية.
ثانياـ نظرية التحديد الذاتي:
ذهب
الفقهاء الالمان مع اعترافهم بضرورة تقييد الدولة بالقانون، الى ان القواعد
القانونية التي تحكم السلطات العامة لا يمكن ان تكون من صنع الدولة. ذلك ان الدولة
هي صاحبة السيادة، والسيادة في نظرهم هي التي مكَّنت صاحبها في ان يحدد لنفسه
بحرية مجال نشاطه، وان يعين مختارا ما يريد القيام به من الأعمال ومن ثم فالدولة
لا يمكن ان تلتزم او يقيد سلطانها إلا بمحض إرادتها. وذلك لا يعني ان الدولة سلطانها
مطلق، لان السيادة ليس من مستلزماتها ان تكون سلطة مطلقة دون حدود. بيد ان من
طبيعة الدولة ذات السيادة ان تضع بنفسها القواعد التي تقيد سلطانها . ولن تكون
الدولة صاحبة سيادة اذا كانت تلك القواعد تفرض عليها من سلطة أو بإدارة أعلى .
ويكاد يجمع الفقه الالماني على ضرورة خضوع الدولة للقانون. وفي ذلك يقول جلينك Jellinek أنه ما لم تخضع الدولة للقانون الذي صنعته، فأن ما
يعد قانونا ملزما بنفسه للافراد لن يكون قانونا بالنسبة للدولة وهذا غير ممكن، لان
القاعدة لا تكون قانونية وغير قانونية في نفس الوقت وداخل نظام قانوني واحد، اللهم
إلا إذا أقمنا الدولة على اساس ديني. ولكن الدولة ليست الله على الارض، فهي خاضعة
للقانون، ونشاطها محدد بالقانون، وتمكن محاسبتها امام القضاء الذي يطبق عليها
القانون شأنها شأن أفرادها. وبذلك يكون الفقه الالماني قد وفق بين فكرة السيادة،
التي كانت في ذلك الوقت (القرن التاسع عشر) بمثابة العقيدة التي لا تقبل الجدل،
وفكرة خضوع الدولة للقانون، فسيادة الدولة تتنافى مع فكرة تقييدها بوساطة سلطة
خارجية عليها، لان السيادة تفرض الاستقلال، ولكن الدولة حين تقبل بمحض إرادتها ان
تقيد سلطانها في امر من الامور لا تكون بذلك قد فقدت سيادتها مادامت هي بنفسها قد
وضعت القيد.
نقد النظرية:
وقد انتقد
ديجي هذه النظرية بعنف، فقال ان خضوع الدولة للقانون لا يكون حقيقيا إذا كانت هي
وحدها تضع القانون وتعدله على وفق هواها وحسب مشيئتها، لأننا في الواقع نكون امام
سلطة مطلقة لا حدود لها . ثم يتساءل عن الاسباب التي يمكن ان تدفع الدولة، وهي
تحتكر إستخدام القوة، الى الخضوع للقانون الذي وضعته؟ِِ. ويجيب عن ذلك إهرنج
بقوله: إن من المنطق ان تخضع الدولة للقانون الذي وضعته لما لها من مصلحة أكيدة في
ذلك، إذ ان الدولة حين تلتزم القانون تكتسب سلطة أقوى على الافراد وتضمن احترامهم
لقوانينها. والدولة لا تخضع للقانون بدافع المصلحة فقط بل ايضا، كما قال جلينيك Jellinek لما يوجد من تلازم بين فكرة الدولة ووجود نظام
قانوني، لأنه من تعريف الدولة يظهر انها تفترض وجود ذلك النظام. فالدولة إذ توجد،
يوجد معها قانون لا يمكنها الخلاص منه إلا بالقضاء على نفسها، وهي لا تمارس نشاطها
إلا على مضمون ذلك القانون، فهو كالظل بالنسبة لها، يوجد بوجودها ويمحى بفنائها.
كما ان القواعد التي يتضمنها ذلك القانون، لا قيمة لها إذا لم تكن ملزمة، والدولة
لا يمكنها مخالفتها بغير القضاء عليها ومن ثمَّ التنكر لوحدها ذاتها. و قد صادفت
هذه النظرية معارضة قوية في الفقه الفرنسي، ولم يعتنقها غير فالين وكاريه دي ملبر . غير ان بعض الفقهاء الفرنسيين مثل هوريو وبيردو لم
يقولوا إلا بآراء مقاربة تماما لآراء الألمان ، وإن أنكروا كل صلة لهم بنظريات
هؤلاء.
ثالثا: نظرية ديجي في التضامن الاجتماعي:
لجم ديجي
النظريات الالمانية من أساسها حتى قال عن نظرية التحديد الذاتي إنها سفسطة وهزل،
وخرج لنا بنظرية جديدة تقوم على أساس إنكار كل من فكرة السيادة وفكرة الحق وفكرة
الشخصية المعنوية. ففي نظر ديجي أن إهرنج وجلنيك قد بدءا من نقطة بداية خاطئة،
لانهما كانا يهدفان الى ايجاد اساس لمبدا خضوع الدولة للقانون لا يتنافى مع مبدأ
سيادة الدولة. بيد ان العلامة الفرنسي ينكر فكرة السيادة، ويرى ان المشكلة تنحصر
في تعريف القانون وتعيين مصدر له يكون في منأى عن سلطان الحكم. فهو يعتقد انه لا
يمكن تبرير خضوع الدولة للقانون طالما حسبنا القانون من صنع الدولة، او انه بعبارة
أخرى مجرد تعبير عن إدارة الحكام، لان الشرط الاساس لتقييد الدولة وخضوعها للقانون
هو ان يكون للقانون مصدر مستقل وخارجي عن الدولة، وسابق على وجودها، بمعزل عن
ارادة كل عضو من أعضائها. فصاحب القاعدة القانونية لا يمكن ان يقيدها لان القيد لا
بد ان يكون مصدره خارجيا، أي نتيجة لقاعدة خارجية. لذلك فقد قامت نظرية ديجي على
اساس المصدر غير الاداري للقانون، أي عدم تدخل ارادة الحكام في عمل القانون.
فالقاعدة تكتسب الصفة القانونية والالزامية لا بسبب إصدارها بواسطة سلطة عامة ،
ولكن بسبب اتفاقها مع مستلزمات التضامن الاجتماعي والعدالة . ومن ثم تكون لها
الصفة القانونية لذاتها وبذاتها، إذ ان توافقها مع مقتضيات التضامن الاجتماعي صفة
ذاتية لا دخل لإرادة الحكام في وجودها. وبذلك يظهر الانفصال بين القانون في مصدره
وبين الدولة، الأمر الذي من شأنه ان يقيد الدولة بالقانون، لأن القاعدة القانونية
تنشأ بمجرد ما يستقر في ضمير الجماعة ضرورة وجودها دون تدخل من الدولة.
نقد النظرية:
وعلى
الرغم مما نكنه لآراء ديجي من إجلال وتقدير ، فاننا نرى انه قد جانب التوفيق في
هذا الباب، وانه اشتط في هجومه على الفقيه الالماني حتى ضل السبيل. فقد انكر
الفقيه الكبير على الدولة حتى مجرد سلطة الصفة الوضعية للقاعدة القانونية، وادعى
بان القاعدة تكتسب هذه الصفة بمجرد اعتناق الآفراد لها ورسوخها في ضمائرهم. ولكن،
أليس القانون الوضعي هو القانون المطبق فعلا؟ ومادام الأمر كذلك، فكيف يمكن القول
ان القاعدة قد اكتسبت الصفة الوضعية باعتناق الافراد لها من دون ان يتحدد مضمونها
تحديدا دقيقا؟ فلا شك ان مجموع الافراد عاجز على ان يقوم مثل هذا التحديد، وكل ما
يستطيع عمله هو ان يتطلع الى تعديل تشريعي في موضوع معين من دون ان يمكنه تحديد
مضمونه تحديدا كافيا. ولذلك فلا يتصور اكتساب الصفة الوضعية لقاعدة ما قبل ان تدخل
سلطة مختصة. ثم كيف يمكن خلع الصفة القانونية الالزامية على القاعدة من دون ان يكون
لها جزاء منظم لحمايتها؟ وكما يقول هوريو: " لاحكم للقانون في أي مكان بغير
سلطة تحميه".الحقيقة أن آراء ديجو في القاعدة القانونية وعدم ضرورة الجزاء
لاعتبارها كذلك، لايمكن التسليم بها. والاساس الذي قال به في خضوع الدولة للقانون
ليس اساسا قانونيا ولا يعدو ان يكون قيدا أخلاقيا. ولا نريد الدخول في تفصيل هذه
النظرية او غيرها من النظريات، فانما قصدنا فقط ان نلم الماما سريعا باهم الاراء
التي قيلت في اساس خضوع الدولة للقانون وهناك نظريات اخرى قيل بها في هذا الشأن
نكتفي بالاحالة اليها( مثل نظرية القانون الطبيعي لميشو ولفير). وخلاصة القول ان
الراي السائد اليوم يدعو الى اخضاع الدولة للقانون وان الخلاف ينحصر في تحديد
الاساس الذي بقوم عليه ذلك المبدأ، فمن قائل بان القيود التي ترد على نشاط الدولة
انما تنبع من ذات وجودها وانه لا يوجد انفصال بين السلطة والقانون اذ هما يمثلان وجهين
لقطعة معدنية واحدة ومن ثم فليس للقانون سبق على الدولة (يمكن ان نضع في هذا
الاتجاه مع نظرية التحديد الذاتي، الاراء التي قال بها كل من هيرو وبيردو). بينما
يرى اخرون ان القانون سابق على الدولة ويسمو عليها ( نظرية الحقوق الفردية، نظرية ديجي في التضامن الاجتماعي
ونظرية القانون الطبيعي) . ونحن وان كنا لا نريد ان نتخذ الان موقفا من هذه الاراء
المختلفة حول القانون والدولة، لما يقتضي ذلك من دخول في تفاصيل قد تباعد بيننا
وبين موضوع البحث، فاننا مع ذلك نستطيع ان نعلن ميلنا الى الاخذ بالنظرية
الالمانية، لما فيها من تلمس لحقيقة الواقع، وبعد عن التصور والخيال. اما النظريات
التي تقيم فاصلا قاطعا بين القانون والدولة فهي نظريات تنكر القانون الوضعي وتقوم
على اساس تصوري خاطئ، اذ انه لا يصح الفصل بين القانون والدولة لوجودهما في حالة
اعتماد وتساند متبادلين، ولان السلطة في الدولة تقوم على اساس من القانون، كما ان
القواعد الوضعية تجد مصدرها في السلطة التي تنظم الجزاء اللازم لحمايتها
تعليقات
إرسال تعليق